فصل: أثر الإكراه عند الشّافعيّة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إقراض

انظر‏:‏ قرض‏.‏

إقراع

انظر‏:‏ قرعة‏.‏

أقط

التّعريف

1 - الأقِط، والِإقْط، والَأقْط، والُأقْط‏:‏ شيء يتّخذ من اللّبن المخيض، يطبخ ثمّ يترك حتّى يمصل ‏(‏أي ينفصل عنه الماء‏)‏، والقطعة منه أقطة‏.‏ ويعرّفه الفقهاء بذلك أيضاً‏.‏

الحكم الإجمالي

تتعلّق بالأقط أحكام منها ما يلي‏:‏

أ - زكاة الفطر‏:‏

2 - يجوز إخراج زكاة الفطر من الأقط عند جمهور الفقهاء باعتباره من الأقوات، ولحديث أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال‏:‏ «كنّا نخرج زكاة الفطر - إذ كان فينا النّبيّ صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعامٍ، أو صاعاً من شعيرٍ، أو صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من زبيبٍ، أو صاعاً من أقطٍ»‏.‏

أمّا عند الحنفيّة فتعتبر فيه القيمة، ولا يجزئ إخراج زكاة الفطر منه إلاّ باعتبار القيمة، لأنّه غير منصوصٍ عليه من وجهٍ يوثق به، وجواز ما ليس بمنصوصٍ عليه لا يكون إلاّ باعتبار القيمة، كسائر الأعيان الّتي لم يقع التّنصيص عليها من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏زكاة الفطر‏)‏‏.‏

ب - البيع‏:‏

3 - يعتبر الأقط من الرّبويّات الّتي يشترط فيها التّماثل والتّقابض في المجلس إن بيعت بمثلها‏.‏ والفقهاء يختلفون في جواز بيع الأقط بعضه ببعضٍ‏.‏ فأجازه المالكيّة والحنابلة لإمكان التّماثل والتّساوي، ومنعه الشّافعيّة لأنّ أجزاءه منعقدة، ولأنّه يخالطه الملح فلا تتحقّق فيه المماثلة‏.‏ وفيه تفصيل كثير ينظر في ‏(‏بيع، ورباً‏)‏‏.‏

مواطن البحث‏:‏

4 - تتعدّد مواطن أحكام الأقط، فتأتي في زكاة الفطر، والرّبا، والسّلم، وتنظر في مواطنها‏.‏

إقطاع

التّعريف

1 - من معاني الإقطاع في اللّغة‏:‏ التّمليك والإرفاق، يقال استقطع الإمام قطيعةً فأقطعه إيّاها‏:‏ أي سأله أن يجعلها له إقطاعاً يتملّكه ويستبدّ به وينفرد، ويقال‏:‏ أقطع الإمام الجند البلد‏:‏ إذا جعل لهم غلّتها رزقاً‏.‏ وهو كذلك شرعاً يطلق على ما يقطعه الإمام، أي يعطيه من الأراضي رقبةً أو منفعةً لمن ينتفع به‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - إحياء الموات‏:‏

2 - هو كما عرّفه الشّافعيّة بأنّه‏:‏ عمارة الأرض الخربة الّتي لا مالك لها ولا ينتفع بها أحد‏.‏

ب - أعطيات السّلطان‏:‏

3 - العطاء والعطيّة‏:‏ اسم لما يعطى، والجمع عطايا وأعطية، وجمع الجمع أعطيات‏.‏ وأعطيات السّلطان‏:‏ ما يعطيه لأحدٍ من الرّعيّة من بيت المال مع مراعاة المصلحة العامّة‏.‏ وعلى هذا قد يكون الإقطاع عطاءً، وقد ينفصل العطاء، فيكون في الأموال المنقولة غالباً‏.‏

ج - الحمى‏:‏

4 - المشروع منه‏:‏ أن يحمي الإمام أرضاً من الموات، يمنع النّاس رعي ما فيها من الكلأ لتكون خاصّةً لبعض المصالح العامّة كمواشي الصّدقة‏.‏

د - الإرصاد‏:‏

5 - الإرصاد لغةً‏:‏ الإعداد، واصطلاحاً‏:‏ تخصيص الإمام غلّة بعض أراضي بيت المال لبعض مصارفه‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح ‏(‏إرصاد‏)‏‏.‏

فالفرق بينه وبين الإقطاع أنّ الإرصاد لا يصير ملكاً للمرصد له، بحيث يتوارثه أولاده أو يتصرّفون فيه كما شاءوا‏.‏

الحكم التّكليفي

6 - الإقطاع جائز بشروطه، سواء أكان إقطاع تمليكٍ أم إقطاع إرفاقٍ، ودليل ذلك من السّنّة أنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقطع الزّبير ركض فرسه من موات النّقيع»، وكذلك فعل الخلفاء من بعده‏.‏

أنواع الإقطاع‏:‏

الإقطاع نوعان‏:‏

7 - النّوع الأوّل‏:‏ إقطاع الإرفاق ‏(‏أو الإمتاع أو الانتفاع‏)‏‏.‏

وهو‏:‏ إرفاق النّاس بمقاعد الأسواق، وأفنية الشّوارع، وحريم الأمصار، ومنازل المسافرين، ونحو ذلك‏.‏

وهو على ثلاثة أقسامٍ‏:‏

القسم الأوّل‏:‏

8 - ما يختصّ الإرفاق فيه بالصّحارى والفلوات‏.‏ حيث منازل المسافرين وحلول المياه وذلك ضربان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون لاجتياز السّابلة واستراحة المسافرين فيه‏.‏ وهذا لا نظر للسّلطان فيه لبعده عنه، والّذي يخصّ السّلطان من ذلك إصلاح عورته وحفظ مياهه، والتّخلية بين النّاس وبين نزوله، ويكون السّابق إلى المنزل أحقّ بحلوله فيه من المسبوق حتّى يرتحل عنه، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «منى مناخ من سبق»‏.‏ فإن نزلوه سواءً، عدل بينهم نفياً للتّنازع‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يكون نزولهم للاستيطان، فإن كان‏.‏ كذلك فللإمام منعهم أو تركهم حسب مصالح المسلمين‏.‏

القسم الثّاني‏:‏

9 - وهو ما يختصّ بأفنية الدّور والأملاك‏.‏ ينظر، فإن كان الارتفاق مضرّاً بهم منع اتّفاقاً، إلاّ أن يأذنوا بدخول الضّرر عليهم‏.‏ فإن كان غير مضرٍّ بهم ففي إباحة ارتفاقهم به من غير إذن أربابها اتّجاهان‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّ لهم الارتفاق بها وإن لم يأذن أربابها، لأنّ الحريم ‏(‏وهو ما ينتفع به أهل الدّور من أماكن غير مملوكةٍ لأحدٍ‏)‏ يعتبر مرفقاً إذا وصل أهله إلى حقّهم منه ساواهم النّاس فيما عداه، وهو قول للشّافعيّة، ورواية عن أحمد، والزّهريّ، وهو رأي الحنفيّة، والمالكيّة‏.‏ الثّاني‏:‏ لا يجوز الارتفاق بحريمهم إلاّ عن إذنهم، لأنّه تبع لأملاكهم فكانوا به أحقّ، وبالتّصرّف فيه أخصّ، وهو رأي للشّافعيّة والحنابلة‏.‏

القسم الثّالث‏:‏

10 - هو ما اختصّ بأفنية الشّوارع والطّرقات، فهو موقوف على نظر السّلطان، وفي حكم نظره وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّ نظره فيه مقصور على كفّهم عن التّعدّي، ومنعهم من الإضرار، والإصلاح بينهم عند التّشاجر‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ نظره فيه نظر مجتهدٍ فيما يراه صالحاً، في إجلاس من يجلس، ومنع من يمنعه، وتقديم من يقدّمه‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ إقطاع التّمليك‏:‏

11 - هو تمليك من الإمام مجرّد عن شائبة العوضيّة بإحياءٍ أو غيره‏.‏

أقسامه وحكم تلك الأقسام‏:‏

12 - ينقسم إقطاع التّمليك في الأرض المقطعة إلى ثلاثة أقسامٍ‏:‏ مواتٍ، وعامرٍ، ومعادن‏.‏

إقطاع الموات‏:‏

إقطاع الموات ضربان‏:‏

13 - الضّرب الأوّل‏:‏ ما لم يزل مواتاً من قديم الدّهر، فلم تجر فيه عمارة ولا يثبت عليه ملك، فهذا يجوز للإمام أن يقطعه من يحييه ومن يعمّره، وقد «أقطع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الزّبير بن العوّام ركض فرسه من موات النّقيع، فأجراه، ثمّ رمى بسوطه رغبةً في الزّيادة، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعطوه منتهى سوطه»‏.‏

ويمتنع به إقدام غير المقطع على إحيائه، لأنّه ملك رقبته بالإقطاع نفسه، خلافاً للحنابلة، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ إقطاع الموات مطلقاً لا يفيد تمليكاً، لكنّه يصير أحقّ به من غيره، فإن أحياه ملكه بالإحياء لا بالإقطاع، أمّا إذا كان الإقطاع مطلقاً، أو مشكوكاً فيه، فإنّه يحمل على إقطاع الإرفاق، لأنّه المحقّق‏.‏

14 - الضّرب الثّاني من الموات‏:‏ ما كان عامراً فخرب، فصار مواتاً عاطلاً، وذلك نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ ما كان عاديّاً - أي قديماً، جاهليّاً - فهو كالموات الّذي لم يثبت فيه عمارة ويجوز إقطاعه‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم «عاديّ الأرض للّه ولرسوله، ثمّ هي لكم منّي»

ثانيهما‏:‏ ما كان إسلاميّاً جرى عليه ملك المسلمين، ثمّ خرب حتّى صار مواتاً عاطلاً، ولا يعرف له مالك ولا ورثة مالكٍ‏.‏ قال الشّافعيّة‏:‏ إنّه مال ضائع يرجع فيه إلى رأي الإمام مطلقاً‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يملك بالإحياء مطلقاً، إذا كانت الأرض غير مقطعةٍ، أمّا إذا كانت مقطعةً فالرّاجح عندهم أنّها لا تملك بالإحياء‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إن لم يعرف أربابه ملك بالإحياء، بشرط إقطاع الإمام له، وهو رأي للحنابلة‏.‏

إقطاع العامر

إقطاع العامر ضربان‏:‏

15 - الضّرب الأوّل‏:‏ ما تعيّن مالكه فلا نظر للسّلطان في إقطاعه اتّفاقاً، إلاّ ما يتعلّق بتلك الأرض من حقوق بيت المال أو المصالح العامّة‏.‏ وهذا إذا كانت في دار الإسلام، سواء أكانت لمسلمٍ أم لذمّيٍّ‏.‏ فإن كانت في دار الحرب الّتي لا يثبت للمسلمين عليها يد، فأراد الإمام إقطاعها عند الظّفر جاز‏.‏ وقد‏:‏ «سأل تميم الدّاريّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يقطعه عيون البلد الّذي كان منه بالشّام قبل فتحه ففعل»‏.‏

16 - الضّرب الثّاني من العامر‏:‏ ما لم يتعيّن مالكوه ولم يتميّز مستحقّوه‏:‏ فما اصطفاه الإمام لبيت المال، وكذلك كلّ ما دخل بيت المال من أرض الخراج، أو ما مات عنه أربابه، ولم يستحقّه وارث بفرضٍ ولا تعصيبٍ ففي إقطاعه رأيان‏:‏

الأوّل‏:‏ عدم الجواز وهو رأي المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، لأنّه لا يجوز إقطاع رقبته لاصطفائه لبيت المال، فكان بذلك ملكاً لكافّة المسلمين‏.‏ فجرى على رقبته حكم الوقف المؤبّد‏.‏

الثّاني‏:‏ الجواز وهو رأي الحنفيّة، لأنّ للإمام أن يجيز من بيت المال من له غناء في الإسلام، ومن يقوى به على العدوّ، ويعمل في ذلك بالّذي يرى أنّه خير للمسلمين وأصلح لأمرهم، والأرض عندهم بمنزلة المال يصحّ تمليك رقبتها، كما يعطى المال حيث ظهرت المصلحة‏.‏

إقطاع المعادن

المعادن هي البقاع الّتي أودعها اللّه جواهر الأرض‏.‏ وهي ضربان‏:‏ ظاهرة وباطنة‏.‏

17 - أمّا الظّاهرة‏:‏ فما كان جوهرها المستودع فيها بارزاً‏.‏ كمعادن الكحل، والملح، والنّفط، فهو كالماء الّذي لا يجوز إقطاعه، والنّاس فيه سواء، يأخذه من ورد إليه، لما ورد أنّ أبيض بن حمّالٍ «استقطع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ملح مأربٍ فأقطعه، فقال الأقرع بن حابسٍ التّميميّ‏:‏ يا رسول اللّه إنّي وردت هذا الملح في الجاهليّة، وهو بأرضٍ ليس فيها غيره، من ورده أخذه وهو مثل الماء العدّ بالأرض، فاستقال أبيض قطيعة الملح‏.‏ فقال‏:‏ قد أقلتك على أن تجعله منّي صدقةً‏.‏ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو منك صدقة، وهو مثل الماء العدّ، من ورده أخذه»

وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ أمّا المالكيّة فقد أجازوا إقطاع الإمام للمعادن بغير تمييزٍ بين الباطن والظّاهر‏.‏

18 - وأمّا المعادن الباطنة‏:‏ فهي ما كان جوهره مستكنّاً فيها، لا يوصل إليه إلاّ بالعمل، كمعادن الذّهب والفضّة والصّفر والحديد‏.‏ فهذه وما أشبهها معادن باطنة، سواء احتاج المأخوذ منها إلى سبكٍ وتصفيةٍ وتخليصٍ أو لم يحتج‏.‏ وقد أجاز إقطاعها الحنفيّة، وهو رأي للشّافعيّة، ومنع ذلك المالكيّة والحنابلة، وهو الرّأي الرّاجح للشّافعيّة‏.‏

التّصرّف في الأراضي الأميريّة

19 - يجوز للإمام أن يدفع الأرض الأميريّة للزّراعة، إمّا بإقامتهم مقام الملّاك في الزّراعة وإعطاء الخراج، أوإجارتها للزّرّاع بقدر الخراج، وعلى هذا اتّفق الأئمّة‏.‏

وأمّا إقطاعها أو تمليكها‏:‏ فمنعه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، لأنّه صار ملكاً عامّاً للمسلمين، وأجازه الحنفيّة اعتماداً على أنّ للإمام أن يجيز من بيت المال من له غناء في الإسلام، كما أنّ له أن يعمل ما يراه خيراً للمسلمين وأصلح، والأرض عندهم بمنزلة المال‏.‏ وعلى هذا فمن يلغي إقطاعها لا يجيز تمليكها، أو إرثها أو إرث اختصاصها، وإنّما منافعها هي الّتي تملك فقط‏.‏ فله إيجارها، وللإمام إخراجها عنه متى شاء، غير أنّه جرى الرّسم في الدّولة العثمانيّة، أنّ من مات عن ابنٍ انتقل الاختصاص للابن مجّاناً، وإلاّ فلبيت المال، ولو له بنت أو أخ لأبٍ له أخذها بالإجارة الفاسدة‏.‏

وهذا إذا كانت الأراضي الأميريّة عامرةً، وأمّا إذا كانت مواتاً فإنّها تملك بالإحياء، وتؤخذ بالإقطاع كما سبق، وتورث عنه إذا مات، ويصحّ بيعها، وعليه وظيفتها من عشرٍ أو خراجٍ وللتّفصيل ينظر - ‏(‏أرض الحوز‏)‏‏.‏

إقطاع المرافق

20 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز للإمام إقطاع المرافق العامّة وما لا غنى عنه للمسلمين، وكذلك أرض الملح والقار ونحوها‏.‏ وكذلك ما قرب من العامر، وتعلّقت به مصالح المسلمين، من طرقٍ وسيل ماءٍ ومطرح قمامةٍ وملقى ترابٍ وآلاتٍ، فلا يجوز إقطاعه، بغير خلافٍ، وكذلك ما تعلّقت به مصالح القرية، كفنائها ومرعى ماشيتها ومحتطبها وطرقها ومسيل مائها، لا يجوز إقطاعه‏.‏

إجارة الإقطاعات وإعارتها

21 - ما أقطعه الإمام للنّاس ملكاً، أو اشتري من بيت المال شراءً مسوّغاً، فلا خفاء في جواز إجارته وإعارته، حيث صار ملكاً للأشخاص يتصرّفون فيه تصرّف الملّاك، ومن أقطعه الإمام أرضاً إقطاع انتفاعٍ في مقابلة خدمةٍ عامّةٍ يؤدّيها، وبعبارة الفقهاء‏:‏ في مقابلة استعداده لما أعدّ له، فإنّ للمقطع إجارتها وإعارتها، لأنّه ملكها ملك منفعةٍ‏.‏

وإذا مات المؤجّر، أو أخرج الإمام الأرض المقطعة منه انفسخت الإجارة، لانتقال الملك إلى غير المؤجّر‏.‏

استرجاع الإقطاعات

22 - إذا أقطع الإمام أرضاً مواتاً، وتمّ إحياؤها، أو لم تمض المدّة المقرّرة عند الفقهاء للإحياء، فليس له استرجاع الإقطاع من مقطعه، وكذلك إذا كان الإقطاع من بيت المال بشراءٍ مسوغٍ أو بمقابلٍ، لأنّه في الأوّل يكون تمليكاً بالإحياء، وفي الثّاني يكون تمليكاً بالشّراء فلا يجوز إخراجه منه إلاّ بحقّه‏.‏

ترك عمارة الأرض المقطعة

23 - لا يعارض المقطع إذا أهمل أرضه بغير عمارةٍ قبل طول اندراسها‏.‏ وقدّر الحنفيّة ذلك بثلاث سنين، وهو رأي للمالكيّة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إن أحياها غيره قبل ذلك كانت ملكاً للمقطع‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن أحياها عالماً بالإقطاع كانت ملكاً للمقطع، وإن أحياها غير عالمٍ بالإقطاع، خيّر المقطع بين أخذها وإعطاء المحيي نفقة عمارته، وبين تركها للمحيي والرّجوع عليه بقيمة الأرض المحياة‏.‏ وقال سحنون من المالكيّة‏:‏ لا تخرج عن ملك محييها ولو طال اندراسها، وإن أعمرها غيره لم تخرج عن ملك الأوّل‏.‏

ولم يشترط الشّافعيّة والحنابلة مدّةً معيّنةً، واعتبروا القدرة على الإحياء بدلاً منها‏.‏ فإن مضى زمان يقدر على إحيائها فيه قيل له‏:‏ إمّا أن تحييها فتقرّ في يدك، وإمّا أن ترفع يدك عنها لتعود إلى حالها قبل الإقطاع‏.‏ وقد اعتبر الحنابلة الأعذار المقبولة مسوّغاً لبقائها على ملكه بدون إحياءٍ، إلى أن يزول العذر‏.‏

واستدلّ الحنفيّة بأنّ عمر رضي الله عنه جعل أجل الإقطاع إلى ثلاث سنين‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّ التّأجيل لا يلزم، وتأجيل عمر يجوز أن يكون لسببٍ اقتضاه‏.‏

وقف الإقطاعات

24 - إنّ وقف الإقطاع يدور صحّةً وعدماً على ثبوت الملكيّة وعدمه للواقف، فمن أثبتها له بوجهٍ من الوجوه حكم بصحّة وقف الإقطاع، ومن لم يثبتها لم يحكم بصحّته‏.‏

على أنّ للإمام أن يقف شيئاً من بيت المال على جهةٍ أو شخصٍ معيّنٍ، مع أنّه لا يملك ما يقفه، إذا كان في ذلك مصلحة‏.‏

الإقطاع بشرط العوض

25 - الأصل في إقطاع التّمليك‏:‏ أن يكون مجرّداً عن العوض، فإن أقطعه الإمام على أنّ عليه كذا أو كلّ عامٍ كذا جاز وعمل به، ومحلّ العوض المأخوذ بيت مال المسلمين، لا يختصّ الإمام به، لعدم ملكه لما أقطعه، وهو رأي الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ورأي للشّافعيّة، حيث إنّ للإمام أن يفعل ما يراه مصلحةً للمسلمين‏.‏ وهناك رأي للشّافعيّة بخلافه، وعلّلوه بأنّ الإقطاع عطيّة وهبة وصلة وليس بيعاً، والأثمان من صفة البيع‏.‏

أقطع

التّعريف

1 - الأقطع لغةً‏:‏ مقطوع اليد‏.‏

وعند الفقهاء‏:‏ يستعمل في مقطوع اليد أو الرّجل‏.‏ وفي العمل النّاقص أو قليل البركة‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - «كلّ أمرٍ لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم فهو أقطع» كما ورد في الحديث‏.‏

3 - والمكلّف إن كان مقطوع اليد أو الرّجل يسقط عنه الجهاد إن كان فرض كفايةٍ، لأنّه إذا سقط عن الأعرج فالأقطع أولى، ولأنّه يحتاج إلى الرّجلين في المشي، واليدين ليتّقي بأحدهما ويضرب بالأخرى‏.‏

ومن الفقهاء من يجعل بعض الأمراض الّتي تصيب اليد أو الرّجل عذراً يمنع الخروج للقتال كذلك‏.‏

4 - ومن قطعت يده أو رجله يسقط عنه فرض غسل العضو المقطوع في الوضوء والغسل ‏(‏ر‏:‏ وضوء، غسل‏)‏‏.‏

5- وقطع اليد والرّجل صفة نقصٍ في إمام الصّلاة، ولذلك كره بعض الفقهاء إمامته لغيره، ومنهم من منعها، وتفصيل ذلك في شروط الإمامة‏.‏

6- وإن قطع الأقطع من غيره عضواً مماثلاً للعضو المقطوع أو غير مماثلٍ ففي ذلك تفصيل ينظر في ‏(‏قصاص‏)‏‏.‏ وكذلك إذا سرق ففي إقامة الحدّ عليه تفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ سرقة‏)‏‏.‏

إقعاء

التّعريف

1 - الإقعاء عند العرب‏:‏ إلصاق الأليتين بالأرض، ونصب السّاقين ووضع اليدين على الأرض، وقال ابن القطّاع‏:‏ أقعى الكلب‏:‏ جلس على أليتيه ونصب فخذيه، وأقعى الرّجل‏:‏ جلس تلك الجلسة‏.‏

وللفقهاء في الإقعاء تفسيران‏:‏

الأوّل‏:‏ نحو المعنى اللّغويّ، وهو اختيار الطّحاويّ من الحنفيّة‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يضع أليتيه على عقبيه، ويضع يديه على الأرض، وهو اختيار الكرخيّ من الحنفيّة‏.‏

وجلسة الإقعاء غير التّورّك والافتراش، فالافتراش أن يجلس على كعب يسراه بحيث يلي ظهرها الأرض وينصب يمناه‏.‏ ويخرجها من تحته، ويجعل بطون أصابعها على الأرض معتمداً عليها لتكون أطراف أصابعه إلى القبلة‏.‏

والتّورّك إفضاء ألية وورك وساق الرّجل اليسرى للأرض، ونصب الرّجل اليمنى على اليسرى، وباطن إبهام اليمنى للأرض، فتصير رجلاه معاً من الجانب الأيمن‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الإقعاء بالمعنى الأوّل مكروه في الصّلاة عند أكثر الفقهاء، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «نهى عن الإقعاء في الصّلاة»‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ الإقعاء بهذه الصّورة حرام، ولكن لا تبطل به الصّلاة‏.‏ وأمّا الإقعاء بالمعنى الثّاني فمكروه أيضاً عند الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، إلاّ أنّ الكراهة تنزيهيّة عند الحنفيّة‏.‏

استدلّ الحنابلة على هذا الرّأي رواه الحارث عن عليٍّ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقع بين السّجدتين»‏.‏ وعند الشّافعيّة‏:‏ الإقعاء بهذه الكيفيّة بين السّجدتين سنّة، ففي مسلمٍ «الإقعاء سنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم» وفسّره العلماء بهذا، ونصّ عليه الشّافعيّ في البويطيّ والإملاء في الجلوس بين السّجدتين، ونقل عن أحمد بن حنبلٍ أنّه قال‏:‏ لا أفعل ولا أعيب من فعله، وقال‏:‏ العبادلة كانوا يفعلونه‏.‏

أمّا الإقعاء في الأكل فلا يكره، روى أنس رضي الله عنه قال‏:‏ «رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالساً مقعياً يأكل تمراً»‏.‏

أقلف

التّعريف

1 - الأقلف‏:‏ هو الّذي لم يختن، والمرأة قلفاء، والفقهاء يخصّون أحكام الأقلف بالرّجل دون المرأة‏.‏ ويقابل الأقلف في المعنى‏:‏ المختون‏.‏

وإزالة القلفة من الأقلف تسمّى ختاناً في الرّجل، وخفضاً في المرأة‏.‏

حكمه التّكليفي

2 - اتّفق الفقهاء على أنّ إزالة القلفة من الأقلف من سنن الفطرة، لتضافر الأحاديث على ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الفطرة خمس‏:‏ الختان، والاستحداد، وقصّ الشّارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط»‏.‏ كما سيأتي تفصيل ذلك في ‏(‏ختان‏)‏‏.‏

وذهب الشّافعيّة وأحمد بن حنبلٍ إلى أنّ الختان فرض‏.‏ وهو قول ابن عبّاسٍ وعليّ بن أبي طالبٍ والشّعبيّ وربيعة الرّأي والأوزاعيّ ويحيى بن سعيدٍ وغيرهم، وعلى هذا فإنّ الأقلف تارك فرضٍ، ومنهم من ذهب إلى أنّه سنّة كأبي حنيفة والمالكيّة، وهو قول الحسن البصريّ‏.‏

3 - يختصّ الأقلف ببعض الأحكام‏:‏

أ - ردّ شهادته عند الحنفيّة إن كان تركه الاختتان لغير عذرٍ‏.‏ وهو ما يفهم من مذهبي الشّافعيّة والحنابلة، لأنّهم يقولون بوجوب الاختتان، وترك الواجب فسق، وشهادة الفاسق مردودة‏.‏ وذهب المالكيّة إلى كراهة شهادته‏.‏

ب - جواز ذبيحة الأقلف وصيده، لأنّه لا أثر للفسق في الذّبيحة والصّيد، ولذلك فقد ذهب الجمهور - وهو الصّحيح عند الحنابلة - إلى أنّ ذبيحة الأقلف وصيده يؤكلان، لأنّ ذبيحة النّصرانيّ تؤكل فهذا أولى‏.‏ وروي عن ابن عبّاسٍ، وعكرمة وأحمد بن حنبلٍ أنّ ذبيحة الأقلف لا تؤكل، وقد بيّن الفقهاء ذلك في كتاب الذّبائح والصّيد‏.‏

ج - إذا كان الاختتان - إزالة القلفة - فرضاً، أو سنّةً، فلو أزالها إنسان بغير إذن صاحبها فلا ضمان عليه‏.‏

د - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا كان هناك حرج في غسل ما تحت القلفة فلا يطلب تطهيرها دفعاً للحرج‏.‏

أمّا إذا كان تطهيرها ممكناً من غير حرجٍ فالشّافعيّة والحنابلة يوجبون تطهير ما تحت القلفة في الغسل والاستنجاء، لأنّها واجبة الإزالة، وما تحتها له حكم الظّاهر‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى استحباب غسلها في الغسل والاستنجاء، ويفهم من عبارة مواهب الجليل أنّ المالكيّة لا يرون وجوب غسل ما تحت القلفة‏.‏

هـ – ذهب الشّافعيّة والحنابلة، وهم من يقولون بوجوب تطهير ما تحت القلفة، إلى أنّه إذا لم يغسل ما تحتها لا تصحّ طهارته، وبالتّالي لا تصحّ إمامته‏.‏

وأمّا الحنفيّة فتصحّ إمامته عندهم مع الكراهة التّنزيهيّة، والمالكيّة يرون جواز إمامة الأقلف، ولكنّهم يرون كراهة تعيينه إماماً راتباً، ومع هذا لو صلّى النّاس خلفه لم يعيدوا صلاتهم‏.‏

أقلّ الجمع

التّعريف

1 - الجمع في اللّغة‏:‏ تأليف المتفرّق، وضمّ الشّيء بتقريب بعضه من بعض‏.‏

وفي اصطلاح النّحاة والصّرفيّين‏.‏ اسم دلّ على جملة آحادٍ مقصودةٍ بحروف مفرده بتغيّرٍ ما‏.‏ وفيما يفيده أقلّ الجمع من حيث العدد آراء‏:‏

أ - رأي النّحاة والصّرفيّين‏:‏

2 - أفاد الرّضيّ في الكافية أنّه لا يجوز إطلاق الجمع على الواحد والاثنين، فلا يقع رجال على رجلٍ ولا رجلين‏.‏، وصرّح ابن يعيشٍ بأنّ القليل الّذي جعل القلّة له هو الثّلاثة فما فوقها إلى العشرة‏.‏

ب - رأي الأصوليّين والفقهاء‏:‏

3 - ذكر الأصوليّون الخلاف في أقلّ عددٍ تطلق عليه صيغة الجمع، فجاء في التّلويح، ونحوه في مسلّم الثّبوت‏:‏ أنّ أكثر الصّحابة والفقهاء وأئمّة اللّغة ذهبوا إلى أنّ أقلّ الجمع ثلاثة، فلا يصحّ الإطلاق على أقلّ منه إلاّ مجازاً، حتّى لو حلف لا يتزوّج نساءً لا يحنث بتزوّج امرأتين‏.‏ وذهب بعضهم كحجّة الإسلام الغزاليّ، وسيبويه من النّحاة، إلى أنّ أقلّ الجمع اثنان حقيقةً، حتّى يحنث بتزوّج امرأتين‏.‏

وقيل‏:‏ لا يصحّ للاثنين لا حقيقةً ولا مجازاً‏.‏ وبعد عرض أدلّة كلّ فريقٍ، والرّدّ عليها، يذكر صاحبا التّلويح ومسلّم الثّبوت أنّ النّزاع ليس في لفظ الجمع المؤلّف من ‏(‏ج م ع‏)‏ وإنّما النّزاع في المسمّى، أي في الصّيغ المسمّاة به، كرجالٍ ومسلمين‏.‏

وذكر القرطبيّ عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان له إخوة فلأمّه السّدس‏}‏ أنّ أقلّ الجمع اثنان، لأنّ التّثنية جمع شيءٍ إلى مثله، واستدلّ برأي سيبويه فيما يرويه عن الخليل‏.‏ والظّاهر أنّ القرطبيّ أراد بقوله‏:‏ إنّ أقلّ الجمع اثنان الميراث لأنّه قال بعد ذلك‏:‏ وممّن قال‏:‏ إنّ أقلّ الجمع ثلاثة - وإن لم يقل به هنا - ‏(‏يقصد الميراث‏)‏ ابن مسعودٍ والشّافعيّ وأبو حنيفة وغيرهم‏.‏ وبالنّظر في أبواب الفقه المختلفة نجد أنّ أقلّ الجمع عند الفقهاء ثلاثة فصاعداً عدا الميراث، وسيأتي بيان ذلك‏.‏

ج - رأي الفرضيّين‏:‏

4 - الفرضيّون - عدا ابن عبّاسٍ - يعتبرون أنّ أقلّ الجمع اثنان، فقد جاء في العذب الفائض عند الكلام على ميراث الأمّ مع الإخوة أنّ أقلّ الجمع اثنان، قال ابن سراقة وقد ورد ذلك في القرآن الكريم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربّهم‏}‏‏.‏ يريد اختصما، ثمّ قال‏:‏ ومن أهل اللّغة من يجعل الاثنين جمعاً حقيقةً، وقد حكي عن الفرّاء أنّه قال‏:‏ أوّل الجمع التّثنية، وهو الأصل في اللّغة، والاثنان من جنس الإخوة يردّان الأمّ إلى السّدس وجاء في السّراجيّة أنّ حكم الاثنين في الميراث حكم الجماعة، فحكم البنتين والأختين كحكم البنات والأخوات في استحقاق الثّلثين، فكذا في الحجب‏.‏

وهذا الحكم لم يخالف فيه سوى ابن عبّاسٍ‏.‏

ما يتفرّع على هذه القاعدة‏:‏

أوّلاً - عند الفقهاء‏:‏

5 - يبني الفقهاء أحكامهم على اعتبار أنّ أقلّ الجمع ثلاثة، وهذا فيما يستعمل فيه من المسائل الفقهيّة المتفرّقة عدا مسائل الميراث، عند جميع الفقهاء، والوصيّة كذلك عند الحنفيّة، فتبنى الأحكام فيها باعتبار أنّ أقلّ الجمع اثنان، وذلك كما جاء في عباراتهم‏.‏ ويجب أن يلاحظ أنّ المقصود هو الجمع المنكّر كما سنرى في الأمثلة - إذ هو الّذي يتمّ الحكم بانطباقه على ثلاثةٍ من أفراده باعتبارها أقلّ ما ينطبق عليه‏.‏

الأمثلة في غير الميراث‏:‏

6 - أ - في الوصيّة‏:‏ من وصّى بكفّارة أيمانٍ فأقلّ ما يجب لتنفيذ هذه الوصيّة أن يكفّر عنه ثلاثة أيمانٍ، لأنّ الثّلاثة أقلّ الجمع، وهذا عند الجمهور‏.‏ أمّا عند الحنفيّة فيجب التّكفير عن يمينين فصاعداً، اعتباراً لمعنى الجمع، وأقلّه اثنان في الوصيّة، والوصيّة أخت الميراث، وفي الميراث أقلّ الجمع اثنان‏.‏

ب - في الوقف‏:‏ من وقف لجماعةٍ أو لجمعٍ من أقرب النّاس إليه صرف ريع الوقف إلى ثلاثةٍ، لأنّها أقلّ الجمع، فإن لم يبلغ أقرب النّاس إليه ثلاثةً يتمّم العدد ممّا بعد الدّرجة الأولى‏.‏ فمثلاً‏:‏ إن كان لمن وقف ابنان وأولاد ابنٍ، فإنّه يخرج من أولاد ابنه واحد منهم بالقرعة‏.‏ ويضمّ للابنين ويعطون الوقف‏.‏

ج - في الإقرار‏:‏ لو قال‏:‏ له عندي دراهم، لزمه ثلاثة دراهم، لأنّه جمع، وأقلّ الجمع ثلاثة‏.‏

د - في اليمين‏:‏ من حلف على ترك شيءٍ، أو على ألاّ يكلّم غيره أيّاماً أو شهوراً أو سنين، منكّراً لفظ الأيّام والشّهور والسّنين لزمه ثلاثة، لأنّه أقلّ الجمع‏.‏

7- أمّا بالنّسبة للميراث فتبنى الأحكام فيه باعتبار أنّ أقلّ الجمع اثنان‏.‏ ويتّضح ذلك في ميراث الأمّ مع الإخوة، فقد أجمع أهل العلم - إلاّ ما روي عن ابن عبّاسٍ - على أنّ الأخوين ‏(‏فصاعداً‏)‏ ذكوراً كانوا أو إناثاً يحجبان الأمّ عن الثّلث إلى السّدس، عملاً بظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان له إخوة فلأمّه السّدس‏}‏‏.‏ لأنّ أقلّ الجمع هنا اثنان، وقد قال الزّمخشريّ‏:‏ لفظ الإخوة هنا يتناول الأخوين، لأنّ الجمع من الاجتماع، وأنّه يتحقّق باجتماع الاثنين‏.‏ ولأنّ الجمع يذكر بمعنى التّثنية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد صغت قلوبكما‏}‏ هذا رأي الجمهور‏.‏

وخالف في ذلك ابن عبّاسٍ فجعل الاثنين من الإخوة في حكم الواحد ولا يحجب الأمّ أقلّ من ثلاثٍ، لظاهر الآية، وقد وقع الكلام في ذلك بين عثمان وابن عبّاسٍ، فقال له عثمان‏:‏ إنّ قومك ‏(‏يعني قريشاً‏)‏ حجبوها - يعني الأمّ - وهم أهل الفصاحة والبلاغة‏.‏

ثانياً - عند الأصوليّين‏:‏

8 - ذكر الأصوليّون الخلاف في مسمّى الجمع، وهل يطلق على الثّلاثة فأكثر، أو يصحّ أن يطلق على الاثنين على نحو ما سبق بيانه‏.‏

وهم يذكرون ذلك في معرض الكلام عن العامّ وتخصيصه، باعتبار أنّ الجمع من ألفاظ العموم، وأنّ العامّ إذا كان جمعاً مثل الرّجال جاز تخصيصه إلى الثّلاثة، تفريعاً على أنّ الثّلاثة أقلّ الجمع، لأنّ التّخصيص إلى ما دون الثّلاثة يخرج اللّفظ عن الدّلالة على الجمع فيصير نسخاً، وتفصيل هذا ينظر في الملحق الأصوليّ‏.‏

مواطن البحث‏:‏

9 - أقلّ الجمع يستعمل في المسائل الّتي يستعمل فيها الجمع المنكّر، كالنّذر والأيمان والعتق والطّلاق وغير ذلك‏.‏

أقلّ ما قيل

التّعريف

1 - الأخذ بأقلّ ما قيل عند الأصوليّين أن يختلف الصّحابة في أمرٍ مقدّرٍ على أقاويل، فيؤخذ بأقلّها، إذا لم يدلّ على الزّيادة دليل‏.‏ وذلك مثل اختلافهم في دية اليهوديّ هل هي مساوية لدية المسلم، أو على النّصف، أو على الثّلث ‏؟‏ فالقول بأقلّها وهو الثّلث – أخذ بأقلّ ما قيل‏.‏ ويقاربه‏:‏ الأخذ بأخفّ ما قيل‏.‏ والفرق بينهما هو من حيث الكمّ والكيف‏.‏

ويقابله‏:‏ الأخذ بأكثر ما قيل‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - اختلف الأصوليّون في الأخذ بأقلّ ما قيل، هل يعتبر دليلاً يعتمد في إثبات الحكم ‏؟‏ فأثبته الإمام الشّافعيّ، والباقلّانيّ من المالكيّة، وقال القاضي عبد الوهّاب منهم‏:‏ وحكى بعض الأصوليّين إجماع أهل النّظر عليه‏.‏

ونفاه جماعة، منهم ابن حزمٍ، بل حكى قولاً بأنّه يؤخذ بأكثر ما قيل، ليخرج عن عهدة التّكليف بيقينٍ، وكما اختلفوا في الأخذ بالأقلّ اختلفوا في الأخذ بالأخفّ ومحلّ تفصيل ذلك الملحق الأصوليّ‏.‏

مواطن البحث

3 - ذكر الأصوليّون الأخذ بأقلّ ما قيل في مبحث الاستدلال‏.‏ والاستدلال هنا في اصطلاحهم‏:‏ ما كان من الأدلّة ليس بنصٍّ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ‏.‏ كما ذكروه في الكلام على الإجماع لبيان علاقته به‏.‏

اكتحال

التّعريف

1 - الاكتحال لغةً‏:‏ مصدر اكتحل‏.‏ يقال اكتحل‏:‏ إذا وضع الكحل في عينه‏.‏ وهو في الاصطلاح مستعمل بهذا المعنى‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - استحبّ الحنابلة والشّافعيّة الاكتحال وتراً، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من اكتحل فليوتر»، وأجازه مالك في أحد قوليه للرّجال، وكرهه في قوله الآخر للتّشبّه بالنّساء‏.‏

أمّا الحنفيّة، فقالوا بالجواز إذا لم يقصد به الرّجل الزّينة، وأوضح بعض الحنفيّة أنّ الممنوع هو التّزيّن للتّكبّر، لا بقصد الجمال والوقار‏.‏ ولا خلاف في جواز الاكتحال للنّساء ولو بقصد الزّينة، وكذلك للرّجال بقصد التّداوي‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح ‏(‏تزيّن‏)‏‏.‏

الاكتحال بالمتنجّس

3 - ينبغي أن يكون ما يكتحل به طاهراً حلالاً، أمّا الاكتحال بالنّجس أو المحرّم فهو غير جائزٍ لعموم النّهي عن ذلك‏.‏ أمّا إذا كان الاكتحال لضرورةٍ فقد أجازه الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، ومنعه المالكيّة‏.‏

الاكتحال في الإحرام

4 - أجاز الحنفيّة الاكتحال بالإثمد للمحرم بغير كراهةٍ ما دام بغير طيبٍ، فإذا كان بطيبٍ وفعله مرّةً أو مرّتين فعليه صدقة، فإن كان أكثر فعليه دم‏.‏ ومنعه المالكيّة وإن كان من غير طيبٍ، إلاّ إذا كان لضرورةٍ، فإن اكتحل فعليه الفدية‏.‏ وأجازه الشّافعيّة والحنابلة مع الكراهة، واشترط الحنابلة عدم قصد الزّينة به‏.‏ ‏(‏ر - إحرام‏)‏‏.‏

الاكتحال في الصّوم

5 - إذا اكتحل الصّائم بما يصل إلى جوفه فعند الحنفيّة والشّافعيّة - وهو اختيار ابن تيميّة - لا يفسد صومه، وإن وجد طعمه في حلقه، ولونه في نخامته، لأنّه لم يصل إلى الجوف من منفذٍ مباشرٍ، بل بطريق المسامّ‏.‏ وقال المالكيّة، وهو المذهب عند الحنابلة‏:‏ إنّه يفسد صومه إذا وصل إلى الحلق‏.‏ وللتّفصيل ينظر ‏(‏صوم‏)‏‏.‏

الاكتحال للمعتدّة من الوفاة

6 - إذا كان الاكتحال بما لا يتزيّن به عادةً فلا بأس به عند الفقهاء ليلاً أو نهاراً‏.‏ أمّا إذا كان ممّا يتزيّن به كالإثمد، فالأصل عدم جوازه إلاّ لحاجةٍ، فإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز‏.‏ وصرّح المالكيّة أنّ المراد - في هذه الحال - تكتحل ليلاً وتغسله نهاراً وجوباً‏.‏

الاكتحال للمعتدّة من الطّلاق

7 - اتّفق الفقهاء على إباحة الاكتحال للمعتدّة من طلاقٍ رجعيٍّ‏.‏ بل صرّح المالكيّة بأنّه يفرض على زوج المعتدّة ثمن الزّينة الّتي تستضرّ بتركها‏.‏

واختلفوا في المعتدّة من طلاقٍ بائنٍ‏.‏ قال الحنفيّة، وهو رأي للشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يجب عليها ترك الاكتحال والزّينة، وفي رأيٍ للشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يستحسن لها ذلك‏.‏

أمّا المالكيّة فعندهم الإباحة مطلقاً للمطلّقة ‏(‏ر - عدّة‏)‏‏.‏

الاكتحال في الاعتكاف

8 - تكلّم الشّافعيّة على الزّينة في الاعتكاف والاكتحال فيه، وصرّحوا بأنّه لا يضرّ فيه الاكتحال ولا الزّينة‏.‏ وقواعد المذاهب الأخرى لا تنافيه‏.‏ ‏(‏ر - اعتكاف‏)‏‏.‏

الاكتحال في يوم عاشوراء

9 - تكلّم الحنفيّة على الاكتحال في يوم عاشوراء وعلى استحبابه، وأبانوا بأنّه لم يرد في ذلك نصّ صحيح، وقال بعضهم‏:‏ بأنّه بدعة‏.‏ ‏(‏ر - بدعة‏)‏‏.‏

اكتساب

التّعريف

1 - الاكتساب‏:‏ طلب الرّزق وتحصيل المال على العموم‏.‏ وأضاف الفقهاء إلى ذلك ما يفصح عن الحكم، فقالوا‏:‏ الاكتساب هو تحصيل المال بما حلّ من الأسباب‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الكسب‏:‏

2 - يفترق الكسب عن الاكتساب بأنّ الاكتساب لا يكون إلاّ ببذل الجهد، أمّا الكسب فإنّه لا يعني أكثر من الإصابة، يقال‏:‏ كسب مالاً‏:‏ إذا أصاب مالاً، سواء كان ذلك ببذل جهدٍ، بأن اكتسبه بعرق جبينه، أو كسبه من غير جهدٍ، كما إذا آل إليه بميراثٍ مثلاً‏.‏

ب - الاحتراف، أو العمل‏:‏

3 - يفترق الاكتساب عن الاحتراف أو العمل بأنّهما من وسائل الاكتساب، وليسا باكتسابٍ، إذ الاكتساب قد يكون باحتراف حرفةٍ، وقد يكون بغير احتراف حرفةٍ، كمن يعمل يوماً عند نجّارٍ، ويوماً عند حدّادٍ، ويوماً حمّالاً، دون أن يبرع أو يستقرّ في عملٍ‏.‏

الحكم التّكليفي

4 - أ - ذهب الفقهاء إلى أنّ الاكتساب فرض على المحتاج إليه إذا كان قادراً عليه، لأنّه به يقوم المكلّف بما وجب عليه من التّكاليف الماليّة، من الإنفاق على النّفس والزّوجة والأولاد الصّغار، والأبوين المعسرين، والجهاد في سبيل اللّه وغير ذلك‏.‏

ب - ويفصّل ابن مفلحٍ الحنبليّ حكم الاكتساب بحسب أحوال المكتسب، وخلاصة كلامه‏:‏ يسنّ التّكسّب مع توفّر الكفاية للمكتسب، قال المروزيّ‏:‏ سمعت رجلاً يقول لأبي عبد اللّه أحمد بن حنبلٍ‏:‏ إنّي في كفايةٍ، قال الإمام أحمد‏:‏ الزم السّوق تصل به رحمك، وتعد به على نفسك‏.‏

ويباح التّكسّب لزيادة المال والجاه والتّرفّه والتّنعّم والتّوسعة على العيال، مع سلامة الدّين والعرض والمروءة وبراءة الذّمّة‏.‏

ويجب التّكسّب على من لا قوت له ولمن تلزمه نفقته، وعلى من عليه دين أو نذر طاعةٍ أو كفّارة‏.‏ وقد فصّل الفقهاء ذلك في أبواب النّفقة‏.‏

ويرى الماورديّ - الشّافعيّ - في كتابه أدب الدّنيا والدّين‏:‏ أنّ طلب المرء من الكسب قدر كفايته، والتماسه منه وفق حاجته هو أحمد أحوال الطّالبين، وأعدل مراتب القاصدين‏.‏

من لا يكلّف الاكتساب

5 - أ - لا تكلّف المرأة الاكتساب للإنفاق على نفسها أو على غيرها، وتكون نفقتها إن كانت فقيرةً واجبةً على غيرها، سواء كانت متزوّجةً أم ليست بذات زوجٍ‏.‏

ب - ولا يكلّف الصّغير الّذي ليس بأهلٍ للكسب الاكتساب، ومن جملة هذه الأهليّة القدرة الجسديّة والفكريّة الّتي يفرّق فيها بين الحلال والحرام، لما روى الإمام مالك في الموطّأ عن عثمان بن عفّان أنّه قال‏:‏ لا تكلّفوا الصّغير الكسب، فإنّه إذا لم يجد سرق‏.‏

أمّا الكبير فإنّه يكلّف الاكتساب كما تقدّم‏.‏

طرق الاكتساب

6 - إذا كان الاكتساب لا بدّ فيه من بذل الجهد - على خلاف الكسب الّذي قد يكون ببذل الجهد، وقد يكون بغير بذل جهدٍ - فإنّه لا يكون إلاّ بالعمل، وعندئذٍ يشترط في العمل أن يكون حلالاً، فلا يجوز الاكتساب بتقديم الخمر لشاربيه، سواء احترف ذلك أم لم يحترفه، كما يكره الاكتساب عن طريق حرفةٍ وضيعةٍ بقيودٍ وشروطٍ ذكرت في ‏(‏احتراف‏)‏‏.‏

أكدريّة

التّعريف

1 - الأكدريّة هي‏:‏ إحدى المسائل الملقّبات في الفرائض، وهي زوج، وأمّ، وجدّ، وأخت لأبٍ وأمٍّ، أو لأبٍ‏.‏ ولقّبت هذه المسألة بالأكدريّة، لأنّها واقعة امرأةٍ من بني أكدر ماتت وخلّفت أولئك الورثة المذكورين، واشتبه على زيدٍ مذهبه فيها فنسبت إليها‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ شخصاً من هذه القبيلة كان يحسن مذهب زيدٍ في الفرائض، فسأله عبد الملك بن مروان عن هذه المسألة فأخطأ في جوابها، فنسبت إلى قبيلته‏.‏ وقيل‏:‏ سمّيت بذلك لأنّها كدّرت على زيد بن ثابتٍ أصوله في التّوريث، وقيل‏:‏ لأنّ الجدّ كدّر على الأخت نصيبها، وأهل العراق يسمّونها الغرّاء، لشهرتها فيما بينهم‏.‏ وللعلماء في هذه المسألة ثلاثة مذاهب‏:‏

2 - أحدها‏:‏ مذهب زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه، وبه أخذ الشّافعيّة والحنابلة، وهو أنّ للزّوج النّصف، وللأمّ الثّلث، وللجدّ السّدس وللأخت النّصف، ثمّ يضمّ نصيب الجدّ إلى نصيب الأخت، ويقسم مجموع النّصيبين بينهما للذّكر مثل حظّ الأنثيين‏.‏

أصل المسألة من ستّةٍ، وتعول إلى تسعةٍ‏:‏ للزّوج ثلاثة، وللأمّ اثنان، وللجدّ واحد، وللأخت ثلاثة، ومجموع النّصيبين أربعة، فنقسمها على الجدّ والأخت للذّكر مثل حظّ الأنثيين، وتصحّ من سبعةٍ وعشرين‏:‏ للزّوج تسعة، وللأمّ ستّة، وللجدّ ثمانية، وللأخت أربعة‏.‏ فقد جعل زيد هاهنا الأخت ابتداءً صاحبة فرضٍ، كي لا تحرم الميراث بالمرّة، وجعلها عصبةً بالآخرة، كي لا يزيد نصيبها على نصيب الجدّ الّذي هو كالأخ‏.‏

المذهب الثّاني‏:‏ وهو قول أبي بكرٍ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم، حاصله‏:‏ للزّوج النّصف، وللأمّ الثّلث، والسّدس الباقي للجدّ، وتسقط الأخت، وقد أخذ بهذا أبو حنيفة‏.‏

المذهب الثّالث‏:‏ وهو قول عمر وابن مسعودٍ، للزّوج النّصف، وللأخت النّصف، وللأمّ السّدس، وللجدّ السّدس، وأصلها من ستّةٍ وتعول إلى ثمانيةٍ، للزّوج ثلاثة، وثلاثة للأخت أيضاً والجدّ يأخذ سدساً عائلاً وهو واحد، وكذا الأمّ‏.‏ وإنّما جعلوا للأمّ السّدس كي لا يفضّلوها على الجدّ‏.‏

صلة الأكدريّة بغيرها من المسائل الملقّبات

3 - الأكدريّة إن لم يكن فيها زوج فهي الخرقاء، وإن لم يكن فيها جدّ كانت المباهلة، وإن لم يكن فيها أخت كانت إحدى الغرّاوين، وأحكام هذه المسائل تذكر في ‏(‏إرث‏)‏‏.‏

إكراه

التّعريف

1 - قال في لسان العرب‏:‏ أكرهته، حملته على أمرٍ هو له كاره - وفي مفردات الرّاغب نحوه - ومضى صاحب اللّسان يقول‏:‏ وذكر اللّه عزّ وجلّ الكره والكره في غير موضعٍ من كتابه العزيز، واختلف القرّاء في فتح الكاف وضمّها‏.‏ قال أحمد بن يحيى‏:‏ ولا أعلم بين الأحرف الّتي ضمّها هؤلاء وبين الّتي فتحوها فرقاً في العربيّة، ولا في سنّةٍ تتبع‏.‏ وفي المصباح المنير‏:‏‏"‏ الكَرْه ‏(‏بالفتح‏)‏‏:‏ المشقّة، وبالضّمّ‏:‏ القهر، وقيل‏:‏ ‏(‏بالفتح‏)‏‏:‏ الإكراه، ‏"‏ وبالضّمّ ‏"‏ المشقّة‏.‏ وأكرهته على الأمر إكراهاً‏:‏ حملته عليه قهراً‏.‏ يقال‏:‏ فعلته كَرْهاً ‏"‏ بالفتح ‏"‏ أي إكراهاً - وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏طوعاً أو كرهاً‏}‏ فجمع بين الضّدّين‏.‏

ولخصّ ذلك كلّه فقهاؤنا إذ قالوا‏:‏ الإكراه لغةً‏:‏ حمل الإنسان على شيءٍ يكرهه، يقال‏:‏ أكرهت فلاناً إكراهاً‏:‏ حملته على أمرٍ يكرهه‏.‏ والكَرْه ‏"‏ بالفتح ‏"‏ اسم منه ‏(‏أي اسم مصدرٍ‏)‏‏.‏ أمّا الإكراه في اصطلاح الفقهاء فهو‏:‏ فعل يفعله المرء بغيره، فينتفي به رضاه، أو يفسد به اختياره‏.‏ وعرّفه البزدويّ بأنّه‏:‏ حمل الغير على أمرٍ يمتنع عنه بتخويفٍ يقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفاً به‏.‏

أو هو‏:‏ فعل يوجد من المكرِه ‏(‏بكسر الرّاء‏)‏ فيحدث في المحلّ ‏(‏أي المكَره بفتح الرّاء‏)‏ معنًى يصير به مدفوعاً إلى الفعل الّذي طلب منه‏.‏ والمعنى المذكور في هذا التّعريف، فسّروه بالخوف، ولو ممّا يفعله الحكّام الظّلمة بالمتّهمين كيداً‏.‏ فإذا كان الدّافع هو الحياء مثلاً، أو التّودّد، فليس بإكراهٍ‏.‏

2 - والفعل - في جانب المكِره ‏(‏بكسر الرّاء‏)‏ ليس على ما يتبادر منه من خلاف القول، ولو إشارة الأخرس، أو مجرّد الكتابة، بل هو أعمّ، فيشمل التّهديد - لأنّه من عمل اللّسان - ولو مفهوماً بدلالة الحال من مجرّد الأمر‏:‏ كأمر السّلطان أو الأمير، وأمر قاطع الطّريق، وأمر الخانق الّذي يبدو منه الإصرار‏.‏

والحنفيّة يقولون‏:‏ أمر السّلطان، إكراه - وإن لم يتوعّد - وأمر غيره ليس بإكراهٍ، إلاّ أن يعلم تضمّنه التّهديد بدلالة الحال‏.‏

وغير الحنفيّة يسوّون بين ذوي البطش والسّطوة أيّاً كانوا، وصاحب المبسوط نفسه من الحنفيّة يقول‏:‏ إنّ من عادة المتجبّرين التّرفّع عن التّهديد بالقتل، ولكنّهم لا يعاقبون مخالفيهم إلاّ به‏.‏

3 - ثمّ المراد بالفعل المذكور - فعل واقع على المكَره ‏(‏بالفتح‏)‏ نفسه - ولو كان تهديداً بأخذ أو حبس ماله الّذي له وقع، لا التّافه الّذي لا يعتدّ به، أو تهديداً بالفجور بامرأته إن لم يطلّقها‏.‏ ويستوي التّهديد المقترن بالفعل المهدّد به - كما في حديث‏:‏ أخذ عمّار بن ياسرٍ، وغطّه في الماء ليرتدّ‏.‏ والتّهديد المجرّد، خلافاً لمن لم يعتدّ بمجرّد التّهديد، كأبي إسحاق المروزيّ من الشّافعيّة، واعتمد‏.‏ الخرقيّ من الحنابلة، تمسّكاً بحديث عمّارٍ هذا، واستدلّ الآخرون بالقياس حيث لا فرق، وإلاّ توصّل المعتدون إلى أغراضهم - بالتّهديد المجرّد - دون تحمّل تبعةٍ، أو هلك الواقع عليهم هذا التّهديد إذا رفضوا الانصياع له، فكان إلقاء بالأيدي في التّهلكة، وكلاهما محذور لا يأتي الشّرع بمثله‏.‏ بل في الأثر عن عمر - وفيه انقطاع - ما يفيد هذا التّعميم‏:‏ ذلك أنّ رجلاً في عهده تدلّى يشتار ‏(‏يستخرج‏)‏ عسلاً، فوقفت امرأته على الحبل، وقالت‏:‏ طلّقني ثلاثاً، وإلاّ قطعته، فذكّرها اللّه والإسلام، فقالت‏:‏ لتفعلن، أو لأفعلن، فطلّقها ثلاثاً‏.‏ ورفعت القصّة إلى عمر، فرأى طلاق الرّجل لغواً، وردّ عليه المرأة، ولذا اعتمد ابن قدامة عدم الفرق‏.‏

ويتفرّع على هذا التّفسير أنّه لو وقع التّهديد بقتل رجلٍ لا يمتّ إلى المهدّد بسببٍ، إن هو لم يدلّ على مكان شخصٍ بعينه يراد للقتل، فإنّ هذا لا يكون إكراهاً، حتّى لو أنّه وقعت الدّلالة ممّن طلبت منه، ثمّ قتل الشّخص المذكور، لكان الدّالّ معيناً على هذا القتل عن طواعيةٍ إن علم أنّه المقصود - والمعيّن شريك للقاتل عند أكثر أهل العلم، بشرائط خاصّةٍ - وذهب أبو الخطّاب الحنبليّ إلى أنّ التّهديد في أجنبيٍّ إكراه في الأيمان، واستظهره ابن رجبٍ‏.‏

4 - والفعل، في جانب المكرَه ‏(‏بفتح الرّاء‏)‏، هو أيضاً أعمّ من فعل اللّسان وغيره، إلاّ أنّ أفعال القلوب لا تقبل الإكراه، فيشمل القول بلا شكٍّ‏.‏

وفيما يسمّيه فقهاؤنا بالمصادرة في أبواب البيوع وما إليها، الفعل الّذي يطلب من المكَره ‏(‏بالفتح‏)‏ دفع المال وغرامته، لا سبب الحصول عليه من بيعٍ أو غيره - كاستقراضٍ - فيصحّ السّبب ويلزم وإن علم أنّه لا مخلص له إلاّ بسببٍ معيّنٍ، إلاّ أنّ المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ لم يعيّنه له في إكراهه إيّاه‏.‏ ولذا قالوا‏:‏ إنّ الحيلة في جعل السّبب مكرهاً عليه، أن يقول‏:‏ المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏‏:‏ من أين أتى بالمال ‏؟‏ فإذا عيّن له المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ سبباً، كأن قال له‏:‏ بع كذا، أو عند ابن نجيمٍ اقتصر على الأمر بالبيع دون تعيين المبيع، وقع هذا السّبب المعيّن تحت طائلة الإكراه‏.‏

ولم يخالف في هذا إلاّ المالكيّة - باستثناء ابن كنانة ومتابعيه - إذ جعلوا السّبب أيضاً مكرهاً عليه بإطلاقٍ‏.‏

ويشمل التّهديد بإيذاء الغير، ممّن يحبّه من وقع عليه التّهديد - على الشّرط المعتبر فيما يحصل به الإكراه من أسبابه المتعدّدة - بشريطة أن يكون ذلك المحبوب رحماً محرماً، أو - كما زاد بعضهم - زوجةً‏.‏

والمالكيّة، وبعض الحنابلة يقيّدونه بأن يكون ولداً وإن نزل، أو والداً وإن علا‏.‏ والشّافعيّة - وخرّجه صاحب القواعد الأصوليّة من الحنابلة - لا يقيّدونه إلاّ بكونه ممّن يشقّ على المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ إيذاؤه مشقّةً شديدةً كالزّوجة، والصّديق، والخادم‏.‏ ومال إليه بعض الحنابلة‏.‏ حتّى لقد اعتمد بعض الشّافعيّة أنّ من الإكراه ما لو قال الوالد لولده، أو الولد لوالده ‏(‏دون غيرهما‏)‏‏:‏ طلّق زوجتك، وإلاّ قتلت نفسي، بخلاف ما لو قال‏:‏ وإلاّ كفرت، لأنّه يكفر في الحال‏.‏

وفي التّقييد بالولد أو الوالد نظر لا يخفى‏.‏

كما أنّه يصدق على نحو الإلقاء من شاهقٍ أي‏:‏ الإلجاء بمعناه الحقيقيّ المنافي للقدرة الممكنة من الفعل والتّرك‏.‏

والمالكيّة - وجاراهم ابن تيميّة - اكتفوا بظنّ الضّرر من جانب المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ إن لم يفعل، وعبارتهم‏:‏ يكون ‏(‏أي الإكراه‏)‏ بخوف مؤلمٍ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

5 - الرّضى والاختيار‏:‏

الرّضى لغةً‏:‏ الاختيار‏.‏ يقال‏:‏ رضيت الشّيء ورضيت به‏:‏ اخترته‏.‏ والاختيار لغةً‏:‏ أخذ ما يراه خيراً‏.‏

وأمّا في الاصطلاح، فإنّ جمهور الفقهاء لم يفرّقوا بين الرّضى والاختيار، لكن ذهب الحنفيّة إلى التّفرقة بينهما‏.‏

فالرّضى عندهم هو‏:‏ امتلاء الاختيار وبلوغه نهايته، بحيث يفضي أثره إلى الظّاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها‏.‏

أو هو‏:‏ إيثار الشّيء واستحسانه‏.‏ والاختيار عند الحنفيّة هو‏:‏ القصد إلى مقدورٍ متردّدٍ بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر‏.‏ أو هو‏:‏ القصد إلى الشّيء وإرادته‏.‏

حكم الإكراه‏:‏

6 - الإكراه بغير حقٍّ ليس محرّماً فحسب، بل هو إحدى الكبائر، لأنّه أيضاً ينبئ بقلّة الاكتراث بالدّين، ولأنّه من الظّلم‏.‏ وقد جاء في الحديث القدسيّ‏:‏ «يا عبادي إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

شرائط الإكراه

الشّريطة الأولى‏:‏

7 - قدرة المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ على إيقاع ما هدّد به، لكونه متغلّباً ذا سطوةٍ وبطشٍ - وإن لم يكن سلطاناً ولا أميراً - ذلك أنّ تهديد غير القادر لا اعتبار له‏.‏

الشّريطة الثّانية‏:‏

8 - خوف المكرَه ‏(‏بفتح الرّاء‏)‏ من إيقاع ما هدّد به، ولا خلاف بين الفقهاء في تحقّق الإكراه إذا كان المخوف عاجلاً‏.‏ فإن كان آجلاً، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والأذرعيّ من الشّافعيّة إلى تحقّق الإكراه مع التّأجيل‏.‏ وذهب جماهير الشّافعيّة إلى أنّ الإكراه لا يتحقّق مع التّأجيل، ولو إلى الغد‏.‏ والمقصود بخوف الإيقاع غلبة الظّنّ، ذلك أنّ غلبة الظّنّ معتبرة عند عدم الأدلّة، وتعذّر التّوصّل إلى الحقيقة‏.‏

الشّريطة الثّالثة‏:‏

9 - أن يكون ما هدّد به قتلاً أو إتلاف عضوٍ، ولو بإذهاب قوّته مع بقائه كإذهاب البصر، أو القدرة على البطش أو المشي مع بقاء أعضائها، أو غيرهما ممّا يوجب غمّاً يعدم الرّضا، ومنه تهديد المرأة بالزّنى، والرّجل باللّواط‏.‏

أمّا التّهديد بالإجاعة، فيتراوح بين هذا وذاك، فلا يصير ملجئاً إلاّ إذا بلغ الجوع بالمكره ‏(‏بالفتح‏)‏ حدّ خوف الهلاك‏.‏

ثمّ الّذي يوجب غمّاً يعدم الرّضا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال‏:‏ فليس الأشراف كالأراذل، ولا الضّعاف كالأقوياء، ولا تفويت المال اليسير كتفويت المال الكثير، والنّظر في ذلك مفوّض إلى الحاكم، يقدّر لكلّ واقعةٍ قدرها‏.‏

الشّريطة الرّابعة‏:‏

10 - أن يكون المكره ممتنعاً عن الفعل المكره عليه لولا الإكراه، إمّا لحقّ نفسه - كما في إكراهه على بيع ماله - وإمّا لحقّ شخصٍ آخر، وإمّا لحقّ الشّرع - كما في إكراهه ظلماً على إتلاف مال شخصٍ آخر، أو نفس هذا الشّخص، أو الدّلالة عليه لذلك أو على ارتكاب موجب حدٍّ في خالص حقّ اللّه، كالزّنى وشرب الخمر‏.‏

الشّريطة الخامسة‏:‏

11 - أن يكون محلّ الفعل المكره عليه متعيّناً‏.‏ وهذا عند الشّافعيّة وبعض الحنابلة على إطلاقه‏.‏ وفي حكم المتعيّن عند الحنفيّة، ومن وافقهم من الحنابلة ما لو خيّر بين أمورٍ معيّنةٍ‏.‏ ويتفرّغ على هذا حكم المصادرة الّتي سلف ذكره في فقرةٍ‏.‏

ومنه يستنبط أنّ موقف المالكيّة في حالة الإبهام أدنى إلى مذهب الحنفيّة، بل أوغل في الاعتداد بالإكراه حينئذٍ، لأنّهم لم يشترطوا أن يكون مجال الإبهام أموراً معيّنةً‏.‏

أمّا الإكراه على طلاق إحدى هاتين المرأتين، أو قتل أحد هذين الرّجلين، فمن مسائل الخلاف الّذي صدّرنا به هذه الشّريطة‏:‏ فعند الحنفيّة والمالكيّة، ومعهم موافقون من الشّافعيّة والحنابلة، يتحقّق الإكراه برغم هذا التّخيير‏.‏

وعند جماهير الشّافعيّة، وقلّةٍ من الحنابلة، لا يتحقّق، لأنّ له مندوحةً عن طلاق كلٍّ بطلاق الأخرى - وكذا في القتل - نتيجة عدم تعيين المحلّ‏.‏ والتّفصيل في الفصل الثّاني‏.‏

الشّريطة السّادسة‏:‏

12 - ألاّ يكون للمكره مندوحة عن الفعل المكره عليه، فإن كانت له مندوحة عنه، ثمّ فعله لا يكون مكرهاً عليه، وعلى هذا لو خيّر المكره بين أمرين فإنّ الحكم يختلف تبعاً لتساوي هذين الأمرين أو تفاوتهما من حيث الحرمة والحلّ، وتفصيل الكلام في ذلك كما يلي‏:‏

إنّ الأمرين المخيّر بينهما إمّا أن يكون كلّ واحدٍ منهما محرّماً لا يرخّص فيه، ولا يباح أصلاً، كما لو وقع التّخيير بين الزّنى والقتل‏.‏

أو يكون كلّ واحدٍ منهما محرّماً يرخّص فيه عند الضّرورة، كما لو وقع التّخيير بين الكفر وإتلاف مال الغير‏.‏ أو يكون كلّ واحدٍ منهما محرّماً يباح عند الضّرورة، كما لو وقع التّخيير بين أكل الميتة وشرب الخمر‏.‏ أو يكون كلّ واحدٍ منهما مباحاً أصالةً أو للحاجة، كما لو وقع التّخيير بين طلاق امرأته وبيع شيءٍ من ماله، أو بين جمع المسافر الصّلاة في الحجّ وفطره في نهار رمضان‏.‏

ففي هذه الصّور الأربع الّتي يكون الأمران المخيّر بينهما متساويين في الحرمة أو الحلّ، يترتّب حكم الإكراه على فعل أيّ واحدٍ من الأمرين المخيّر بينهما، وهو الحكم الّذي سيجيء تقريره بخلافاته وكلّ ما يتعلّق به، لأنّ الإكراه في الواقع ليس إلاّ على الأحد الدّائر دون تفاوتٍ، وهذا لا تعدّد فيه، ولا يتحقّق إلاّ في معيّنٍ، وقد خالف في هذا أكثر الشّافعيّة وبعض الحنابلة، فنفوا حصول الإكراه في هذه الصّور‏.‏

وإن تفاوت الأمران المخيّر بينهما، فإن كان أحدهما محرّماً لا يرخّص فيه ولا يباح بحالٍ كالزّنى والقتل، فإنّه لا يكون مندوحةً، ويكون الإكراه واقعاً على المقابل له، سواء أكان هذا المقابل محرّماً يرخّص فيه عند الضّرورة، كالكفر وإتلاف مال الغير، أم محرّماً يباح عند الضّرورة، كأكل الميتة وشرب الخمر، أم مباحاً أصالةً أو للحاجة، كبيعٍ كشيءٍ معيّنٍ من مال المكره، والإفطار في نهار رمضان، ويترتّب على هذا الإكراه حكمه الّذي سيجيء تفصيله بخلافاته‏.‏

وتكون هذه الأفعال مندوحةً مع المحرّم الّذي لا يرخّص فيه ولا يباح بحالٍ، أمّا هو فإنّه لا يمكن مندوحةً لواحدٍ منها، ففي الصّور الثّلاث المذكور آنفاً، وهي ما لو وقع التّخيير بين الزّنى أو القتل وبين الكفر أو إتلاف مال الغير، أو وقع التّخيير بين الزّنى أو القتل وبين أكل الميتة أو شرب الخمر، أو وقع التّخيير بين الزّنى أو القتل وبين بيع شيءٍ معيّنٍ من المال، فإنّ الزّنى أو القتل لا يكون مكرهاً عليه، فمن فعل واحداً منهما كان فعله صادرا عن طواعيةٍ لا إكراهٍ، فيترتّب عليه أثره إذا كان الإكراه ملجئاً حتّى يتحقّق الإذن في فعل المندوحة، وكان الفاعل عالماً بالإذن له في فعل المندوحة عند الإكراه‏.‏

وإن كان أحد الأمرين المخيّر بينهما محرّماً يرخّص فيه عند الضّرورة، والمقابل له محرّماً يباح عند الضّرورة، كما لو وقع التّخيير بين الكفر أو إتلاف مال الغير، وبين أكل الميتة أو شرب الخمر، فإنّهما يكونان في حكم الأمرين المتساويين في الإباحة، فلا يكون أحدهما مندوحةً عن فعل الآخر، ويكون الإكراه واقعاً على فعل كلّ واحدٍ من الأمرين المخيّر بينهما، متى كان بأمرٍ متلفٍ للنّفس أو لأحد الأعضاء‏.‏

وإن كان أحد الأمرين محرّماً يرخّص فيه أو يباح عند الضّرورة، والمقابل له مباحاً أصالةً أو للحاجة، كما لو وقع التّخيير بين الكفر أو شرب الخمر، وبين بيع شيءٍ من مال المكره أو الفطر في نهار رمضان، فإنّ المباح في هذه الحالة يكون مندوحةً عن الفعل المحرّم الّذي يرخّص فيه أو يباح عند الضّرورة، وعلى هذا يظلّ على تحريمه، سواء كان الإكراه بمتلفٍ للنّفس أو العضو أو بغير متلفٍ لأحدهما، لأنّ الإكراه بغير المتلف لا يزيل الحظر عند الحنفيّة مطلقاً، والإكراه بمتلفٍ - وإن كان يزيل الحظر - إلاّ أنّ إزالته له بطريق الاضطرار، ولا اضطرار مع وجود المقابل المباح‏.‏

تقسيم الإكراه

ينقسم الإكراه إلى‏:‏ إكراهٍ بحقٍّ، وإكراهٍ بغير حقٍّ‏.‏ والإكراه بغير حقٍّ ينقسم إلى إكراهٍ ملجئٍ، وإكراهٍ غير ملجئٍ‏.‏

أوّلاً‏:‏ الإكراه بحقٍّ

تعريفه‏:‏

13 - هو الإكراه المشروع، أي الّذي لا ظلم فيه ولا إثم‏.‏ وهو ما توافر فيه أمران‏:‏ الأوّل‏:‏ أن يحقّ للمكره التّهديد بما هدّد به‏.‏ الثّاني‏:‏ أن يكون المكره عليه ممّا يحقّ للمكره الإلزام به‏.‏ وعلى هذا فإكراه المرتدّ على الإسلام إكراه بحقٍّ، حيث توافر فيه الأمران، وكذلك إكراه المدين القادر على وفاء الدّين، وإكراه المولي على الرّجوع إلى زوجته أو طلاقها إذا مضت مدّة الإيلاء‏.‏

أثره

14 - والعلماء عادةً يقولون‏:‏ إنّ الإكراه بحقٍّ، لا ينافي الطّوع الشّرعيّ - وإلاّ لم تكن له فائدة، ويجعلون من أمثلته إكراه العنّين على الفرقة، ومن عليه النّفقة على الإنفاق، والمدين والمحتكر على البيع، وكذلك من له أرض بجوار المسجد أو المقبرة أو الطّريق يحتاج إليها من أجل التّوسيع، ومن معه طعام يحتاجه مضطرّ‏.‏

ثانياً‏:‏ الإكراه بغير حقٍّ

تعريفه‏:‏

15 - الإكراه بغير حقٍّ هو الإكراه ظلماً، أو الإكراه المحرّم، لتحريم وسيلته، أو لتحريم المطلوب به‏.‏ ومنه إكراه المفلس على بيع ما يترك له‏.‏‏.‏

الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ

16 - تقسيم الإكراه إلى ملجئٍ وغير ملجئٍ يتفرّد به الحنفيّة‏.‏

فالإكراه الملجئ عندهم هو الّذي يكون بالتّهديد بإتلاف النّفس أو عضوٍ منها، أو بإتلاف جميع المال، أو بقتل من يهمّ الإنسان أمره‏.‏

وحكم هذا النّوع أنّه يعدم الرّضى ويفسد الاختيار ولا يعدمه‏.‏ أمّا إعدامه للرّضى، فلأنّ الرّضا هو الرّغبة في الشّيء والارتياح إليه، وهذا لا يكون مع أيّ إكراهٍ‏.‏

وأمّا إفساده للاختيار دون إعدامه، فلأنّ الاختيار هو‏:‏ القصد إلى فعل الشّيء أو تركه بترجيحٍ من الفاعل، وهذا المعنى لا يزول بالإكراه، فالمكره يوقع الفعل بقصده إليه، إلاّ أنّ هذا القصد تارةً يكون صحيحاً سليماً، إذا كان منبعثاً عن رغبةٍ في العمل، وتارةً يكون فاسداً، إذا كان ارتكاباً لأخفّ الضّررين، وذلك كمن أكره على أحد أمرين كلاهما شرّ، ففعل أقلّهما ضرراً به، فإنّ اختياره لما فعله لا يكون اختياراً صحيحاً، بل اختياراً فاسداً‏.‏ والإكراه غير الملجئ هو‏:‏ الّذي يكون بما لا يفوّت النّفس أو بعض الأعضاء، كالحبس لمدّةٍ قصيرةٍ، والضّرب الّذي لا يخشى منه القتل أو تلف بعض الأعضاء‏.‏

وحكم هذا النّوع أنّه يعدم الرّضا ولكن لا يفسد الاختيار، وذلك لعدم اضطرار المكره إلى الإتيان بما أكره عليه، لتمكّنه من الصّبر على تحمّل ما هدّد به بخلاف النّوع الأوّل‏.‏

17 - أمّا غير الحنفيّة فلم يقسّموا الإكراه إلى ملجئٍ وغير ملجئٍ كما فعل الحنفيّة، ولكنّهم تكلّموا عمّا يتحقّق به الإكراه وما لا يتحقّق، وممّا قرّروه في هذا الموضوع يؤخذ أنّهم جميعاً يقولون بما سمّاه الحنفيّة إكراهاً ملجئاً، أمّا ما يسمّى بالإكراه غير الملجئ فإنّهم يختلفون فيه، فعلى إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ وأحمد يعتبر إكراهاً، وعلى الرّواية الأخرى لا يعتبر إكراهاً‏.‏

أمّا عند المالكيّة فإنّه لا يعتبر إكراهاً بالنّسبة لبعض المكره عليه، ويعتبر إكراهاً بالنّسبة للبعض الآخر، فمن المكره عليه الّذي لا يعتبر الإكراه غير الملجئ إكراهاً فيه‏:‏ الكفر بالقول أو الفعل، والمعصية الّتي تعلّق بها حقّ لمخلوقٍ، كالقتل أو القطع، والزّنى بامرأةٍ مكرهةٍ أو لها زوج، وسبّ نبيٍّ أو ملكٍ أو صحابيٍّ، أو قذفٍ لمسلمٍ‏.‏

ومن المكره عليه الّذي يعتبر الإكراه غير الملجئ إكراهاً فيه‏:‏ شرب الخمر، وأكل الميتة، والطّلاق والأيمان والبيع وسائر العقود والحلول والآثار‏.‏

أثر الإكراه‏:‏

18 - هذا الأثر موضع خلافٍ، بين الحنفيّة وغير الحنفيّة، على النّحو الآتي‏:‏

أثر الإكراه عند الحنفيّة‏:‏

19 - يختلف أثر الإكراه عند الحنفيّة باختلاف القول أو الفعل الّذي يقع الإكراه عليه، فإن كان المكره عليه من الإقرارات، كان أثر الإكراه إبطال الإقرار وإلغاءه، سواء كان الإكراه ملجئاً أم غير ملجئٍ‏.‏ فمن أكره على الاعتراف بمالٍ أو زواجٍ أو طلاقٍ كان اعترافه باطلاً، ولا يعتدّ به شرعاً، لأنّ الإقرار إنّما جعل حجّةً في حقّ المقرّ باعتبار ترجّح جانب الصّدق فيه على جانب الكذب، ولا يتحقّق هذا التّرجيح مع الإكراه، إذ هو قرينة قويّة على أنّ المقرّ لا يقصد بإقراره الصّدق فيما أقرّ به، وإنّما يقصد دفع الضّرر الّذي هدّد به عن نفسه‏.‏ وإن كان المكره عليه من العقود والتّصرّفات الشّرعيّة كالبيع والإجارة والرّهن ونحوها كان أثر الإكراه فيها إفسادها لا إبطالها، فيترتّب عليها ما يترتّب على العقد الفاسد، حسب ما هو مقرّر في المذهب أنّه ينقلب صحيحاً لازماً بإجازة المكره، وكذلك لو قبض المكره الثّمن، أو سلّم المبيع طوعاً، يترتّب عليه صحّة البيع ولزومه‏.‏

وحجّتهم في ذلك أنّ الإكراه عندهم لا يعدم الاختيار الّذي هو ترجيح فعل الشّيء على تركه أو العكس، وإنّما يعدم الرّضى الّذي هو الارتياح إلى الشّيء والرّغبة فيه، والرّضى ليس ركناً من أركان هذه التّصرّفات ولا شرطاً من شروط انعقادها، وإنّما هو شرط من شروط صحّتها، فإذن فقد ترتّب على فقدانه فساد العقد لا بطلانه‏.‏ ولكنّهم استثنوا من ذلك بعض التّصرّفات، فقالوا بصحّتهما مع الإكراه، ولو كان ملجئاً، ومن هذه التّصرّفات‏:‏ الزّواج والطّلاق ومراجعة الزّوجة والنّذر واليمين‏.‏ وعلّلوا هذا بأنّ الشّارع اعتبر اللّفظ في هذه التّصرّفات - عند القصد إليه - قائماً مقام إرادة معناه، فإذا وجد اللّفظ ترتّب عليه أثره الشّرعيّ، وإن لم يكن لقائله قصد إلى معناه، كما في الهازل، فإنّ الشّارع اعتبر هذه التّصرّفات صحيحةً إذا صدرت منه، مع انعدام قصده إليها، وعدم رضاه بما يترتّب عليها من الآثار‏.‏ وإن كان المكره عليه من الأفعال، كالإكراه على قتل من لا يحلّ قتله، أو إتلاف مالٍ لغيره أو شرب الخمر وما أشبه ذلك، فالحكم فيها يختلف باختلاف نوع الإكراه والفعل المكره عليه‏.‏

20 - فإن كان الإكراه غير ملجئٍ - وهو الّذي يكون بما لا يفوّت النّفس، أو بعض الأعضاء كالحبس لمدّةٍ قصيرةٍ، أو أخذ المال اليسير، ونحو ذلك - فلا يحلّ الإقدام على الفعل‏.‏ وإذا أقدم المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ على الفعل بناءً على هذا الإكراه كانت المسئوليّة عليه وحده، لا على من أكرهه

21 - وإن كان الإكراه ملجئاً - وهو الّذي يكون بالقتل أو تفويت بعض الأعضاء أو العمل المهين لذي الجاه - فالأفعال بالنّسبة إليه أربعة أنواعٍ‏:‏

أ - أفعال أباحها الشّارع أصالةً دون إكراهٍ كالأكل والشّرب، فإنّه إذا أكره على ارتكابها وجب على المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ أن يرتكب أخفّ الضّررين‏.‏

ب - أفعال أباح الشّارع إتيانها عند الضّرورة، كشرب الخمر وأكل لحم الميتة أو الخنزير، وغير ذلك من كلّ ما حرّم لحقّ اللّه لا لحقّ الآدميّ، فالعقل - مع الشّرع - يوجبان ارتكاب أخفّ الضّررين‏.‏

فهذه يباح للمكره فعلها، بل يجب عليه الإتيان‏.‏ بها، إذا ترتّب على امتناعه قتل نفسه أو تلف عضوٍ من أعضائه، لأنّ اللّه تعالى أباحها عند الضّرورة بقوله عزّ من قائلٍ‏:‏ ‏{‏إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه، فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ اللّه غفور رحيم‏}‏‏.‏

ولا شكّ أنّ الإكراه الملجئ من الضّرورة الّتي رفع اللّه الإثم فيها، فيباح الفعل عند تحقّقها، وتناول المباح دفعاً للهلاك عن النّفس أو بعض أجزائها واجب، فلا يجوز تركه، ولو شرب الخمر مكرهاً لم يحدّ، لأنّه لا جناية حينئذٍ، والحدّ إنّما شرع زجراً عن الجنايات‏.‏

ج - أفعال رخّص الشّارع في فعلها عند الضّرورة، إلاّ أنّه لو صبر المكره على تحمّل الأذى، ولم يفعلها حتّى مات، كان مثاباً من اللّه تعالى، وذلك كالكفر باللّه تعالى أو الاستخفاف بالدّين، فإذا أكره الإنسان على الإتيان بشيءٍ من ذلك جاز له الفعل متى كان قلبه مطمئنّاً بالإيمان، لقول اللّه عزّ وجلّ ‏{‏إلاّ من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان‏}‏‏.‏

ومن السّنّة ما جاء بإسنادٍ صحيحٍ عند الحاكم والبيهقيّ وغيرهما عن محمّد بن عمّارٍ عن أبيه «أخذ المشركون عمّار بن ياسرٍ، فلم يتركوه حتّى سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخيرٍ، فلمّا أتى النّبيّ عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ما وراءك ‏؟‏ قال‏:‏ شرّ، يا رسول اللّه، ما تركت حتّى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخيرٍ، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ فكيف تجد قلبك ‏؟‏ قال‏:‏ مطمئنّاً بالإيمان، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإن عادوا فعد»‏.‏

وقد ألحق علماء المذهب بهذا النّوع الإكراه على إفساد صوم رمضان، أو ترك الصّلاة المفروضة، أو إتلاف مال الغير، فإنّ المكره لو صبر وتحمّل الأذى، ولم يفعل ما أكره عليه كان مثاباً، وإن فعل شيئاً منها فلا إثم عليه، وكان الضّمان في صورة الإتلاف على الحامل عليه لا على الفاعل، لأنّ فعل الإتلاف يمكن أن ينسب إلى الحامل بجعل الفاعل آلةً له، فيثبت الضّمان عليه‏.‏

د - أفعال لا يحلّ للمكره الإقدام عليها بحالٍ من الأحوال، كقتل النّفس بغير حقٍّ، أو قطع عضوٍ من أعضائها، أو الضّرب الّذي يؤدّي إلى الهلاك، فهذه الأفعال لا يجوز للمكره الإقدام عليها، ولو كان في امتناعه عنها ضياع نفسه، لأنّ نفس الغير معصومة كنفس المكره، ولا يجوز للإنسان أن يدفع الضّرر عن نفسه بإيقاعه على غيره، فإن فعل كان آثماً، ووجب عقاب الحامل له على هذا الفعل باتّفاق علماء المذهب، والخلاف بينهم إنّما هو في نوع هذا العقاب‏.‏

فأبو حنيفة ومحمّد يقولان‏:‏ إنّه القصاص، لأنّ القتل يمكن أن ينسب إلى الحامل بجعل الفاعل آلةً له، والقصاص إنّما يكون على القاتل لا على آلة القتل‏.‏

وأبو يوسف يقول‏:‏ إنّه الدّية، لأنّ القصاص لا يثبت إلاّ بالجناية الكاملة، ولم توجد الجناية الكاملة بالنّسبة لكلٍّ من الحامل والمكره‏.‏

وهذا القتل يقوم مانعاً من الإرث بالنّسبة للمكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ إذا كان المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ مكلّفاً‏.‏ أمّا إذا كان غير مكلّفٍ كالصّبيّ أو المجنون فلا يكون مانعاً‏.‏ وهذا عند أبي حنيفة ومحمّدٍ، أمّا أبو يوسف فلا يحرم ولو كان المكره مكلّفاً‏.‏ أمّا بالنّسبة للمكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ فلا يحرم باتّفاق الحنفيّة‏.‏ وإنّما يجب القصاص عند أبي حنيفة ومحمّدٍ على المكره إذا كان المطلوب قتله شخصاً ثالثاً غير المكره ولا المكره، فإن كان المطلوب قتله هو المكرِه كأن قال للّذي قتله‏:‏ اقتلني وإلاّ قتلتك، فقتله، فلا قصاص على القاتل، وتجب الدّية لوجود الشّبهة، ولأنّ الدّية تثبت للوارث ابتداءً لا ميراثاً عن المقتول‏.‏

وأمّا إن كان المطلوب قتله هو المكرَه، فإنّه لا يكون ثمّ إكراه، لأنّ المهدّد به لا يزيد على القتل، فلا يتحقّق الإكراه ولا شيء من آثاره، فلا قصاص ولا دية في هذا القتل، إلاّ إذا كان التّهديد بقتلٍ أشنع كما لو قال له‏:‏ لتلقينّ نفسك في النّار أو لأقتلنك، فعند أبي حنيفة يختار ما هو الأهون في ظنّه، وعند الصّاحبين‏:‏ يصبر ولا يقتل نفسه، لأنّ مباشرة الفعل سعي في إهلاك نفسه فيصبر تحامياً عنه‏.‏ ثمّ إذا ألقى نفسه في النّار فاحترق فعلى المكره القصاص باتّفاقهم، كما في الزّيلعيّ‏.‏

ونقل صاحب مجمع الأنهر أنّ القصاص إنّما هو عند أبي حنيفة خلافاً للصّاحبين‏.‏

ومن هذا النّوع أيضاً‏:‏ الزّنى، فإنّه لا يرخّص فيه مع الإكراه، كما لا يرخّص فيه حالة الاختيار، لأنّ حرمة الزّنى لا ترتفع بحالٍ من الأحوال، فإذا فعله إنسان تحت تأثير الإكراه كان آثماً، ولكن لا يجب عليه الحدّ، لأنّ الإكراه يعتبر شبهةً، والحدود تدرأ بالشّبهات‏.‏ وقد أورد البابرتيّ من الحنفيّة ضابطاً لأثر الإكراه نصّه‏:‏ الإكراه الملجئ معتبر شرعاً سواء، أكان على القول أم الفعل‏.‏ والإكراه غير الملجئ إن كان على فعلٍ فليس بمعتبرٍ، ويجعل كأنّ المكره فعل ذلك الفعل بغير إكراهٍ‏.‏ وإن كان على قولٍ، فإن كان قولاً يستوي فيه الجدّ والهزل فكذلك، وإلاّ فهو معتبر‏.‏

أثر الإكراه عند المالكيّة‏:‏

22 - يختلف أثر الإكراه عندهم باختلاف المكره عليه‏:‏

أ - فإن كان المكره عليه عقداً أو حلّاً أو إقراراً أو يميناً لم يلزم المكره شيء، ويكون الإكراه في ذلك بالتّخويف بقتلٍ أو ضربٍ مؤلمٍ أو سجنٍ أو قيدٍ أو صفعٍ لذي مروءةٍ على ملأٍ من النّاس‏.‏ وإن أجاز المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ شيئاً ممّا أكره عليه - غير النّكاح - طائعاً بعد زوال الإكراه لزم على الأحسن، وأمّا النّكاح فلا تصحّ إجازته‏.‏

ب - وإن كان الإكراه على الكفر بأيّ صورةٍ من صوره، أو قذف المسلم بالزّنى، أو الزّنى بامرأةٍ طائعةٍ خليّةٍ ‏(‏غير متزوّجةٍ‏)‏، فلا يحلّ له الإقدام على شيءٍ من هذه الأشياء إلاّ في حالة التّهديد بالقتل، لا فيما دونه من قطعٍ أو سجنٍ ونحوه، فإن فعل ذلك اعتبر مرتدّاً، ويحدّ في قذف المسلم، وفي الزّنى‏.‏

ج - وإن كان الإكراه على قتل مسلمٍ، أو قطع عضوٍ منه، أو على زنًى بمكرهةٍ، أو بامرأةٍ لها زوج، فلا يجوز الإقدام على شيءٍ من ذلك ولو أكره بالقتل‏.‏ فإن قتل يقتصّ منه، ويعتبر القتل هنا مانعاً للقاتل من ميراث المقتول، لأنّه شريك في الفعل، وكذلك المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ يقتصّ منه أيضاً ويمنع من الميراث‏.‏ وإنّما يجب القصاص عندهم على المكره والمكره، إذا كان المطلوب قتله شخصاً ثالثاً غيرهما‏.‏

فإن كان المطلوب قتله هو المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ كما لو قال للّذي قتله‏:‏ اقتلني وإلاّ قتلتك فقتله، فلا قصاص عندهم وتجب الدّية، لمكان الشّبهة من ناحيةٍ، وبناءً على أنّ الدّية تثبت للوارث ابتداءً لا ميراثاً‏.‏ وأمّا إن كان المطلوب قتله هو المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏، فالأصل أنّه لا يتحقّق الإكراه في هذه الحالة، ولا قصاص فيه ولا دية، إلاّ إذا كان التّهديد بقتلٍ أشنع، كالإحراق بالنّار وبتر الأعضاء حتّى الموت، فإنّ المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ يختار أهون الميتتين، جزم به اللّقانيّ‏.‏ وإن زنى يحدّ‏.‏

د - وأمّا لو أكره على فعل معصيةٍ - غير الكفر - لا حقّ فيها لمخلوقٍ كشرب خمرٍ وأكله ميتةً، أو إبطال عبادةٍ كصلاةٍ وصومٍ، أو على تركها فيتحقّق الإكراه بأيّة وسيلةٍ من قتلٍ أو غيره‏.‏ ويترتّب عليه في الصّوم القضاء دون الكفّارة‏.‏ وفي الصّلاة يكون الإكراه بمنزلة المرض المسقط لبعض أركانها، ولا يسقط وجوبها‏.‏ وفي شرب الخمر لا يقام الحدّ‏.‏ وألحق سحنون بهذا النّوع الزّنى بامرأةٍ طائعةٍ لا زوج لها، خلافاً للمذهب‏.‏

ويضيف المالكيّة أنّ القطع في السّرقة يسقط بالإكراه مطلقاً، ولو كان بضربٍ أو سجنٍ لأنّه شبهة تدرأ الحدّ‏.‏

أثر الإكراه عند الشّافعيّة‏:‏

23 - يختلف أثر الإكراه عندهم باختلاف المكره عليه‏.‏

أ - الإكراه بالقول‏:‏ إذا كان المكره عليه عقداً أو حلّاً أو أيّ تصرّفٍ قوليٍّ أو فعليٍّ، فإنّه لا يصحّ عملاً بعموم الحديث الصّحيح‏:‏ «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه» إذ المقصود ليس رفع ما وقع لمكان الاستحالة، وإنّما رفع حكمه، ما لم يدلّ دليل على خلاف ذلك، فيخصّص هذا العموم في موضع دلالته‏.‏ وبمقتضى أدلّة التّخصيص يقرّر الشّافعيّة أنّه لا أثر لقول المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ إلاّ في الصّلاة فتبطل به وعلى هذا فيباح للمكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ التّلفّظ بكلمة الكفر، ولا يجب، بل الأفضل الامتناع مصابرةً على الدّين واقتداءً بالسّلف‏.‏

وفي طلاق زوجة المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ أو بيع ماله ونحوهما من كلّ ما يعتبر الإكراه فيه إذناً أبلغ‏.‏ والإكراه في شهادة الزّور الّتي تفضي إلى القتل أو الزّنى، وفي الإكراه بالحكم الباطل الّذي يفضي إلى القتل أو الزّنى، فلا يرتفع الإثم عن شاهد الزّور، ولا عن الحاكم الباطل، وحكمهما في هذه الحالة من حيث الضّمان حكم المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏

ب - الإكراه بالفعل‏:‏ لا أثر للإكراه بالفعل عند الشّافعيّة إلاّ فيما يأتي‏:‏

-1 -الفعل المضمّن كالقتل أو إتلاف المال أو الغصب، فعلى المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ القصاص أو الضّمان، وقرار الضّمان على المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏، وإن قيل‏:‏ لا رجوع له على المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ بما غرم في إتلاف المال، لأنّه افتدى بالإتلاف نفسه عن الضّرر‏.‏ قال القليوبيّ في مسألة القتل‏:‏ فيقتل هو المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ ومن أكرهه‏.‏

-2- الزّنى وما إليه‏:‏ يأثم المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ بالزّنى، ويسقط الحدّ للشّبهة، ويترتّب على وطء الشّبهة حكمه‏.‏

-3 - الرّضاع‏:‏ فيترتّب عليه التّحريم المؤبّد في المناكحات وما ألحق بها‏.‏

-4- كلّ فعلٍ يترتّب عليه بطلان الصّلاة، كالتّحوّل عن القبلة، والعمل الكثير، وترك قيام القادر في الفريضة، والحدث، فتبطل الصّلاة بما تقدّم برغم الإكراه عليه‏.‏

-5- ذبح الحيوان‏:‏ تحلّ ذبيحة المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏ الّذي تحلّ ذبيحته، كالمسلم والكتابيّ ولو كان المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ مجوسيّاً، أو محرّماً والمذبوح صيد‏.‏

قال السّيوطيّ‏:‏ وقد رأيت الإكراه يساوي النّسيان، فإنّ المواضع المذكورة، إمّا من باب ترك المأمور، فلا يسقط تداركه، ولا يحصل الثّواب المرتّب عليه، وإمّا من باب الإتلاف، فيسقط الحكم المرتّب عليه، وتسقط العقوبة المتعلّقة به، إلاّ القتل على الأظهر‏.‏

أثر الإكراه عند الحنابلة‏:‏

24 - يختلف أثر الإكراه عند الحنابلة باختلاف المكره عليه‏:‏

أ - فالتّصرّفات القوليّة تقع باطلةً مع الإكراه إلاّ النّكاح، فإنّه يكون صحيحاً مع الإكراه، قياساً للمكره على الهازل‏.‏ وإنّما لم يقع الطّلاق مع الإكراه للحديث الشّريف

«لا طلاق في إغلاقٍ»، والإكراه من الإغلاق‏.‏

ب - ومن أكره على الكفر لا يعتبر مرتدّاً، ومتى زال عنه الإكراه أمر بإظهار إسلامه، والأفضل لمن أكره على الكفر أن يصبر وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذّمّيّ والمستأمن، فأسلم لم يثبت له حكم الإسلام، حتّى يوجد منه ما يدلّ على إسلامه طوعاً‏.‏

أمّا من يجوز إكراهه على الإسلام كالمرتدّ، فإنّه إذا أكره فأسلم حكم بإسلامه ظاهراً‏.‏

ج - والإكراه يسقط الحدود عن المكره، لأنّه شبهة، والحدود تدرأ بالشّبهات‏.‏

د - وإذا أكره رجل آخر على قتل شخصٍ فقتله، وجب القصاص على المكره والمكره جميعاً، وإن صار الأمر إلى الدّية وجبت عليهما، وإن أحبّ وليّ المقتول قتل أحدهما، وأخذ نصف الدّية من الآخر أو العفو فله ذلك‏.‏ ويعتبر القتل هنا مانعاً من الميراث بالنّسبة للمكره والمكره‏.‏ والقصاص عندهم لا يجب على المكره والمكره، إلاّ إذا كان المطلوب قتله شخصاً ثالثاً غيرهما‏.‏ فإن كان المطلوب قتله هو المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ فإنّه يكون هدراً، ولا قصاص ولا دية في المختار عندهم‏.‏ وأمّا إن كان المطلوب قتله هو المكرَه ‏(‏بالفتح‏)‏، فلا يتحقّق الإكراه في هذه الحالة، ولا دية ولا قصاص عند بعضهم‏.‏ إلاّ إذا كان التّهديد بقتلٍ أشنع فعليه أن يختار أهون الميتتين في إحدى الرّوايتين‏.‏

أثر إكراه الصّبيّ على قتل غيره‏:‏

25 - إذا كان المكره على القتل صبيّاً، فإنّه يعتبر آلةً في يد المكره عند الحنفيّة، فلا قصاص ولا دية، وإنّما القصاص على المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏‏.‏

وذهب المالكيّة إلى وجوب القصاص على المكره ‏(‏بالكسر‏)‏ ونصف الدّية على عاقلة الصّبيّ‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى التّفرقة بين الصّبيّ المميّز، وغير المميّز‏.‏

فإن كان غير مميّزٍ، اعتبر آلةً عندهم، ولا شيء عليه، ويجب القصاص على المكره‏.‏ وإن كان مميّزاً، فيجب نصف الدّية على عاقلته، والقصاص على المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّ الصّبيّ غير المميّز إذا أكره على قتل غيره فلا قصاص عليه، والقصاص على المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏‏.‏ وفي قولٍ‏:‏ لا يجب القصاص لا عليه وعلى من أكرهه، لأنّ عمد الصّبيّ خطأ، والمكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ شريك المخطئ، ولا قصاص على شريك مخطئٍ‏.‏ أمّا إذا كان الصّبيّ مميّزاً فلا يجب القصاص على المكرِه ‏(‏بالكسر‏)‏ ولا يجب على الصّبيّ المميّز‏.‏